Three women spinning yarn inside a tent with an old man sitting next to them
الباحثون

تمثيل الشعوب والثقافات الأخرى في المتاحف: مقابلة مع الدكتورة ليلى أبو لغد

8 يناير 2023

أجرى المقابلة: إيمان ريزفي

تحدّثنا الدكتورة ليلى أبو لغد، القيمة التفسيرية لمعرض "حياة الترحال من منظور جديد"، عن علاقتها بالمتاحف وتمثيل الشعوب والثقافات الأخرى، والقرارات التي اتخذها القيمون الفنيون في تناول مسألة العلاقة بين الباحث والشعوب التي يتناولها المعرض.

المشاركة مع صديق

يقام معرض "حياة الترحال من منظور جديد" في متحف قطر الوطني حتى 14 يناير 2023، ويتناول حياة المجتمعات الرعوية من منغوليا وقطر والصحراء الوسطى، ويسلط الضوء على أساليب حياتها التي تقوم على علاقة منفعة متبادلة مع البيئة.

الدكتورة ليلى عالمة أنثروبولوجيا معروفة، وقد طرح عملُها الإثنوغرافي المكثف حول المجتمعات البدوية في مصر أسئلةً مهمة حول السياسات والممارسات المتبعة عند تمثيل الثقافات والشعوب الأخرى ونقل قصصها إلى العالم. وقد حظي عملها، مع قبيلة "أولاد علي" التي تسكن الساحل الشمالي الغربي من مصر، باهتمام خاص.

خلال هذه المقابلة تشاركنا الدكتورة أفكارها حول رحلة التقييم الفني لمعرض "حياة الترحال" وما تأمل أن يتعلمه الزوار من استكشافهم أساليب حياةٍ المجتمعات التي يتناولها المعرض، والتي تقدّم بدائل عن أساليب الحياة الأخرى المُعتمِدة على استخراج ثروات الأرض واستهلاكها. كما تتخلل المقابلة صور من عملها المكثف خلال فترة السبعينيات والثمانينيات.

طفلة ويظهر خلفها قطيع من الأغنام

فتاة صغيرة مع قطيع أغنام، أولاد علي، مصر. 1979. الصورة بإذن من الدكتورة ليلى أبو لغد

Lila Abu-Lughod@Anthro-Photo File

س: حدثينا عن الفكرة والتصوّر وراء هذا المعرض والقرارات التي اتخذها القيمون الفنيون لاختيار هذه المجتمعات الثلاثة بالتحديد، والمفردات المستخدمة لتصنيفها؟

الدكتورة ليلى أبو لغد: كان بناء التصور وراء هذا المعرض معقّداً، ومع ذلك فقد أدى الفريق عملاً جماعياً رائعاً. كان تحدياً فكرياً كبيراً بالنسبة لشخص مثلي اعتاد الكتابة، فوجدت نفسي في حاجةٍ إلى إيصال المعرفة وأساليب التفكير المختلفة إلى جمهورٍ واسع ومتنوع دون تعقيدها أو تسطيحها.

لم تكن البداية انطلاقاً من مفهوم أو فكرة متكاملة، وإنما بدأنا ببعض المقتنيات الرائعة من مجموعة متحف قطر الوطني. قادت الفريق الدكتورة ألكسندرا بونيا، وهي خبيرة متخصصة في دراسات المتاحف. أما أنا فكنت "مستشارةً تفسيرية". فقد عشت مع رعاةٍ سابقين من المجتمع البدوي في مصر، وكتبت عنهم، وقرأت كل الأبحاث التي أجريت في مجال المعارض الدائمة التي تتناول تراث الرعاة في قطر.

ولتطوير موضوعات المعرض وهيكله، وظّفنا قيّمين فنيين متخصصين وذوي خبرات مميزة في مجال الرعاة المتواجدين في المناطق التي تناولها المعرض. وبحثنا عن علماء أنثروبولوجيا عايشوا هذه المجتمعات، وفي الوقت نفسه يفهمون ثقافاتها وحياتها اليومية ولغاتها وظروفها التاريخية والجدل العلمي حولها. كل هؤلاء إلى جانب الخبراء القطريين في المتحف شكلوا فريقاً متميزاً استطاع إنجاز المهمة بعد مجاذبات ومناقشات مكثفة. كان القاسم المشترك بين جميع أفراد الفريق هو الالتزام بإنشاء معرض مبتكر ومبني على دراسات دقيقة؛ ليكون جديراً برواية قصص تلامس أي شخص مهتم بمستقبل كوكبنا.

بصفتنا قيمين فنيين وعلماء أنثروبولوجيا، أردنا أن نُخبر العالم عن كل ما هو مهم في هذه المجتمعات التي عرفناها وأعجبنا بأسلوب حياتها، وتربيتها الماشية ورعايتها. أردنا أن يدرك الناس معنى الحياة في بيوت متنقلة لا تستهلك الموارد، أو تترك آثاراً دائمة، وأن يحافظوا على البيئة. ربما من المهم التفكير في هذه النقطة والبحث عن أسلوب حياة لا يدمر البيئة.

استغرق تصميم المعرض أكثر من عام، وكانت رحلة حافلة بالنقاش والتخطيط، وتضمّنت إعداد حزم البحث وتبادل الآراء حول المصطلحات، والنظر في المقتنيات الموجودة لدينا في المتحف، والمقتنيات التي يمكن استعارتها من الخارج، وهذا كلّه أتاح لنا أن نُسرد هذه القصة التي أخذت اتضّحت لنا تدريجياً من خلال نقاشاتنا.

كانت قطر محور اهتمامنا، لكننا توسعنا شرقاً إلى منغوليا، حيث الخيام التقليدية الرائعة التي ألهمت الأوروبيين صناعة خيام اليورت التي تتمتع بشعبية كبيرة بين محبّي التخييم المهتمين بالبيئة. كما ألهمت مهندسين معماريين أميركيين معرووفين مثل بوكمينستر فولر.

ثم توجّهنا غرباً إلى الصحراء الوسطى في إفريقيا، حيث قبائل البدو الرحل الذين يعيشون ويرحلون مع قطعانهم من الإبل والماعز. يطلق هؤلاء القبائل على أنفسهم اسم "إموهار" لكنهم العالم يعرفهم باسم الطوارق. وهنا يبرز لنا التساؤل مرة أخرى عن المصطلح الأنسب الذي علينا استخدامه في معرضنا.

يضم المتحف الوطني مجموعةً ممتازة من المقتنيات القطرية ومن الصحراء الوسطى. وقد أعاد المختصون ترميم عدة قطع أصلية، منها خيمة كبيرة مصنوعة من جلد الماعز، وأعمدة خشبية منحوتة، وأوعية حليب، ومصدّات رياح نسجتها نساءِ هذه المجتمعات، وحقائب جلدية مهدّبة، وغيرها من الأدوات. اتضح أن منغوليا كانت اختياراً رائعاً لأن عالم الأنثروبولوجيا الذي أشرف على هذا الجزء من المعرض أقام علاقات وثيقة مع الزملاء في المتحف الوطني المنغولي، وقد أظهروا حماساً كبيراً للمشاركة في معرضنا، وكانوا كرماء بكل ما قدموه، بما في ذلك خيمة يورت مصنوعة من اللباد، ومجوهرات، وملابس، وسروج خيل، وآلات موسيقية، وغيرها من المقتنيات. كما أعارنا المتحف الوطني للفنون بعضاً من أروع الكنوز الفنية المنغولية التي تقدم تصوّراً جديداً عن الرعاة وبيئاتهم.

لم نكن نرغب في أن يركز هذا المعرض على الإثنوغرافيا وحدها، لتلافي الوقوع في فخ تمثيل هذه المجتمعات وأساليب حياتها بطريقة جامدة ورسمية. تختلف هذه المجتمعات الثلاثة عن بعضها إلى حد كبير. وقد أدى اختلاف مواقعها الجغرافية وبيئاتها إلى اختلاف تاريخ كل منها عن غيرها، مثل تاريخها مع الاستعمار، وتطلعاتها السياسية، والتحديات التي تواجهها.

ونظراً لوجود هذه الاختلافات، قررنا في البداية، رسم تصورنا عن هذه المجتمعات انطلاقاً من القاسم المشترك بينها، والذي يتمثل في كونها مجتمعات رعوية يعيش أهلها مع الحيوانات ويسكنون في مساكن متحركة تتيح لهم التنقل مع قطعانهم.

وإذا اعتبرنا أن الرعاة هم الذين يعيشون بشكل وثيق مع الماشية، فعندها يمكن القول إن هذا هو القاسم المشترك بين هذه المجموعات الثلاث. لكن في الوقت نفسه، كان علينا أخذ الاختلافات بعين الاعتبار. وقد كان هذا درساً مهماً لنا: لا يمكننا النظر إلى أي مجموعة من البشر بمعزل عن التاريخ والسياسة.

على سبيل المثال: كان للاستعمار السوفييتي والزراعة الجماعية الأثر الأكبر في تشكيل الرعي المعاصر. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجد الرعاة أنفسهم يهوون بسرعة نحو قاع النيوليبرالية؛ نتيجة غياب الدعم الكافي لأسلوب حياتهم. أما في قطر، فقد حمل اكتشاف النفط والغاز كثيراً من الفرص والإمكانات التي أدت إلى استبدال أسلوب الحياة شبه البدوي بأساليب حياة أخرى.

امرأة تغزل الصوف في قطر

امرأة تغزل صوف الأغنام، قطر، 1959. تصوير جيتي بانغ، متحف موسجارد.

س: يبدو المعرض وكأنه ملتزم بمواجهة المفاهيم الخاطئة وغير الدقيقة عن الرعاة الرحل وشبه الرحل. لكن في الوقت نفسه، وبصفتك قيمة فنية، كيف تحاولين تحقيق هذا الهدف في الوقت الذي تعرضين فيه مقتنيات وقصص وثقافات هذه الشعوب في مساحة متحفية وتدعين العالم لمشاهدتها؟ ألا يكشف هذا بشكل جلي اختلال موازين القوى بين الشعوب التي تمثلينها والزائر للمعرض؟

الدكتورة ليلى أبو لغد: لطالما رأى العالم الخارجي هذه المجتمعات من منظور رومانسي خيالي، وأحياناً من منظور استشراقي. وغالباً ما يكون هذا مصحوباً بمزيج من الإعجاب والخوف بصفتها مجتمعات محاربة ومستقلة تسكن الصحراء والسهوب. كما كانوا موضع ازدراء وإجحاف، لا سيما من جيرانهم من سكان المناطق الحضرية. غالباً ما ينظر سكان المدن إلى مثل هذه المجتمعات بازدراء لاعتقادهم أن الرحل ليسوا مثقفين أو متعلّمين بالمستوى المطلوب. وتبدو حياة الرحّل بالنسبة لهم بدائية وأقل شأناً بسبب قلة ممتلكاتهم وبساطتها وغياب السلع الفاخرة والكماليات التي اعتادها سكان الحضر. وقد انزعجنا جميعاً من الطريقة التي ينظر بها الناس إلى هذه المجتمعات التي عرفناها وأحببناها وتعرفنا على أفرادها وعشنا معهم عن قرب. كنا مصممين على مواجهة هذه الصور النمطية. لكن كيف نفعل ذلك؟ إحدى الطرق التي اتفقنا عليها كانت من خلال مواجهة الزوار بأفكارهم وأوهامهم المسبقة عن هذه المجتمعات. حاولنا توجيه تجارب الزوار في المعرض من خلال وضع تلك الصور الإشكالية في بداية المعرض. على سبيل المثال: هكذا يتم تمثيل هؤلاء الناس في العادة. أو: ها هي الأفكار المجنونة التي يحملها الناس عن هذه المجتمعات. وأيضاً: ربما لديك مثل هذه الأفكار المبسطة والمتحيزة عن هذه المجتمعات؟ دعنا نتجوّل في هذا المعرض لنراهم بشكلٍ مختلفٍ.

لكن المشكلة التي أثرتها هي بالضبط التحدي الذي نواجهه، والمتمثل في كوننا نمثل تلك الشعوب في معارض متحفية، وأعتقد أنه لا مفر من ذلك.

ورغم كل ذلك، فإننا نشجّع الزوار على مواجهة افتراضاتهم المسبقة، وذلك من خلال تقديم بدائل مرئية، مثل الصور والأفلام، من شأنها أن تقدم مجتمعات الرحّل بصفتها مجتمعات حيّة ومتنوعة وطبيعية ومعقّدة، مثل سائر المجتمعات في العالم. حاولنا عرض الجوانب التي أعجبتنا في هذه المجتمعات، بما في ذلك المهارات التقنية الواجب امتلاكها في بيئاتهم الحافلة بالتحديات. وركزنا على الأشياء والأدوات اليومية التي يصنعونها ويستخدمونها في حياتهم اليومية، وهي أدوات مثيرة للإعجاب، حيث تجمع بين الجمال والعملية، وكثير منها يصنعونه بأنفسهم مستفيدين من الحيوانات التي يعيشون معها.

لذلك يسلِّطُ المعرضُ الضوءَ على الطرق المبتكرة التي يستخدمها هؤلاء الأشخاص للاستفادة من العالم من حولهم، وهو عالم بنوه بأنفسهم. فالخيام مثلاً، نسجتها النساء في بيوتهن؛ حيث يغزلن ويصبغن الصوف وشعر الماعز وينسجنه باستخدام آلة النول، ويصنعن منه نسيج جدران الخيام، وأسقفها، وفواصلها الداخلية. وبذلك يمكن لهذه المجتمعات أن تبني مساكنها، ذات التصميم الهندسي المبتكر، في وقت قياسي، فهم خبراء في صنع هذه الهياكل الجميلة.

في المحصلة يمكن القول إننا ما زلنا نمثّلهم، لكن بصفتهم أشخاصاً متطورين ومبدعين. كما أولينا اهتماماً خاصاً بالجنس (النوع الاجتماعي) والفنون والدور الهام الذي تؤديه المرأة.

امرأة من منغوليا تطلو أعمدة الخيام الخشبية

الصورة بإذن من جان أولزي غونشيج / إم إل بي إس

س: إحدى عيوب الأرشفة الإثنوغرافية تتمثل في طريقة تصوير ورؤية الناسَ وممارساتهم، حيث تتناولهم وكأنهم أحافير من الماضي. ما هو النهج الذي اتبعتموه كقيّمين فنيين في تصوير طبيعة حيال الرحّل بما فيها من استمرارية وتغيّرات وتحوّلات ثقافية؟

الدكتورة ليلى أبو لغد: غالباً ما تُقدّم هذه المجتمعات وكأنها "ثقافات" تعيش في الماضي. وفي حالة قطر، فإن هذه المجتمعات ما زالت تحافظ على جزء من الماضي حيث تحتفظ بالعديد من القيم الراسخة، وتُعلي قيمة التقاليد مثل المجالس وصيد الصقور. وقد أردنا أن نظهر كيف تتغير هذه القيم وتتكيّف مع مرور الزمن. وإذا نظرنا إلى الصيد بالصقور الذي يُمارس في بريطانيا وأوروبا وآسيا، فسندرك التحولات التي تشهدها الثقافات وأثرها على الثقافات الأخرى في العالم.

ركّزنا في أجزاء أخرى من المعرض على مدى ارتباط الناس بالحاضر؛ فهم لم ينعزلوا ولم يعلقوا في الماضي. ولطالما كانت قبائل الإموهار جزءاً من طرق التجارة والقوافل. على سبيل المثال، إذا نظرنا إلى ملابسهم فسنجدها مصبوغة باللون النيلي الذي يأتي من أقصى الجنوب في نيجيريا. كما زاروا مكةَ لأداء فريضة الحج. وقد حرصنا في هذا المعرض على إظهار كيفية استجابتهم لأساليب الفصل والتفريق التي انتهجها الاستعمار الفرنسي تجاههم. حيث تعيش قبائل الإموهار الآن في دول قومية مختلفة كأقليات مهمشة. كما سلطنا الضوء على الطرق التي حوّلوا بها مجوهراتهم الفضية إلى سلع عالمية وطوّروها لتوائم سوق السياحة الأوروبية.

كما تمثل موسيقى الجيتار شاهداً آخر على إبداعهم، حيث طوروها على مدار العقدين الماضيين لتصل إلى جميع أنحاء العالم. ويمكن لزوار المعرض سماع إحدى أغاني فرقة "تيناريوين" تعزف في الخلفية، وهي فرقة كبيرة من الطوارق تقدم عروضها في جميع أنحاء العالم. تتناول أغاني هذه الفرقة الصحراء وتجاربهم ورغباتهم في الوحدة والاستقلال كشعب فصلته الحدود الاستعمارية ويواجه البطالة في المدن أو ينزح إلى مخيمات اللاجئين. يرسلون بموسيقاهم الساحرة رسائل سياسية إلى بعضهم بعضاً، وإلى سائر العالم.

تعتبر منغوليا خير مثال على وجوب عدم تخيّل مجتمعات الرعاة وكأنهم بشر علِقوا في الماضي. قيّمتنا الفنية أصرّت على ضرورة قراءة هؤلاء الرعاة كنتيجة لتاريخهم الحديث. فقد طرأت على هذه المجتمعات تغيرات كثيرة خلال حقبة الاستعمار السوفيتي وشملت الطب وبعض عادات هذه المجتمعات، وأسلوب الرعي الذي تحول إلى ممارسة جماعية. حيث تم تشجيع الرعي بصفته مزوّد البلاد باللّحوم والحليب، وحصل أفضل الرعاة على ميداليات تشجيعية، وحصلوا على دعم الدولة. لكن هذا تغير مع بروز الاقتصاد النيوليبرالي في منغوليا، فهُم ما زالوا يحاولون مواصلة الرعي لكن دون المستوى المأمول؛ وذلك نظراً لندرة الدعم المقدم لهم.

تتعدى شركات التعدين على الأراضي الصالحة للرعي، كما تسبب تغير المناخ في حدوث عواصف شديدة، لذلك يجد الرعاة أنفسهم عرضة للتأثيرات البيئية القوية. أما الصور الجذابة التي تضمها المنشورات السياحية فلا يجب الانسياق وراءها، حيث تصوّر الرعاة وكأنهم فئة غريبة تسكن الخيام وسط الطبيعة الخلابة. لذلك يحاول المعرض أن ينقل لزواره بعض ما مرَّ به هؤلاء الرعاة، في النصف الثاني من القرن العشرين، من ظروف سياسية واقتصادية ساهمت في تشكيل حياتهم الحالية، حيث يستقلون الحافلات، ويستخدمون الدراجات النارية والهواتف المحمولة، ويحبون الاحتفالات والاحتفالات والرياضة والموسيقى وكرم الضيافة، وهي أمور تجمع الناس معاً وتوحّدهم.

كانت هذه فقط بعض الطرق التي حاولنا بها مواجهة الصور الشائعة عن هذه المجتمعات، حيث سلطنا الضوء على الاختلافات بين المجموعات، لكننا أشرنا في الوقت ذاته إلى أهمية قراءة تاريخ كل منها لنفهمها بشكل متزن ومحايد. كما شددنا على أن هؤلاء الناس ليسوا معزولين ولم يكونوا قط كذلك، بل هم مجتمعات حية تعيش في الحاضر وليست عالقة في الماضي".

امرأة ترتدي ثوباً ملوناً أمام خيمة ملونة ويظهر في الصورة قدر طعام على النار

إعداد الطعام من أجل ضيوف حفل الزفاف، قبيلة أولاد علي، مصر، 1980. بإذن من الدكتورة ليلى أبو لغد،

س: تتميّز كتابتك الإثنوغرافية بالطريقة التي تصوّر بها الشعوب والثقافات التي تدرسها، حيث تتيح لها الفرصة للتعبير عن أنفسها بكلماتها الخاصة، دون احتكار الحقيقة من قبل الباحث كما جرت العادة. كيف توازنين بين أسلوبك والأسلوب المتبع في عالم المتاحف؟

الدكتورة ليلى أبو لغد: لطالما تأملت علاقاتي بالشعوب التي درستها وكتبت عنها. وقد فكرنا ملياً في هذه الإشكاليات عندما بدأنا الحديث عن المعرض؛ فمعظم القيّمين الفنيين القائمين على المعرض هم علماء أنثروبولوجيا، لكنهم لا ينتمون إلى المجتمعات التي يدرسونها أو يمثلونها في المعارض. وقد كانت العلاقة بين الباحث والشعوب التي يدرسها موضع تساؤل دائم في عالم المتاحف، وتواجه ضغوطاً مستمرة لإعطاء الشعوب المساحة والصوت للتعبير عن نفسها في كتابات الباحث، ناهيك عن المطالبات بإعادة المقتنيات والتحف المسروقة إلى مواطنها الأصلية. منذ مدة طويلة يدخل المتخصصون في علم الأنثروبولوجيا، في جولات من النقد الذاتي حول الممارسات المتبعة والأخلاقيات الواجب الالتزام بها في أبحاثنا. هل يمكن وصف ما يتبعه الباحثون بأنه تشييء للشعوب والمجتمعات الأخرى، وتناولها من برج عاجي دون إعطائها الحق بالتعبير؟ لم نكن نرغب بفعل ذلك في هذا المعرض. فنحن خبراء فقط لأننا قضينا سنوات وعقوداً من الزمن مع الشعوب التي علَّمَتنا عن عوالمها.

أردنا منذ البداية إيجاد طرق لإشراك الناس من هذه المجتمعات في رواية ثقافاتها للعالم. كان القيّمون الفنيّون المسؤولون عن قسم قطر في المعرض من قطر نفسها، وبالتالي كان المجتمع يتحدث عن نفسه. هذا المفهوم مُعقَّد لأن المجتمعات ليست متجانسة. فمن منا قادر على تمثيل أي مجتمع، بالنظر إلى الاختلافات بين المجتمعات من حيث العرق والجنس والهوية والمستوى الاجتماعي ..إلخ؟

وفي حالة منغوليا، لم تكن القيمة الفنية من هناك، لكن كانت تربطها صلات عميقة مع المنطقة إلى درجة مكنتها من إشراك الزملاء من هناك، وقد سُعدنا بالعمل مع مدير المتحف الوطني المنغولي والقيمين الفنيين هناك. كان الزملاء من المنغوليا هم من اختاروا الأشياء التي يريدون مشاركتها وعرضها في قطر، وبذلك ساهموا في صياغة القصة التي رويناها في معرضنا عن منغوليا. بطبيعة الحال، كانت لدى الزملاء من منغوليا آراء قوية حول الطريقة التي يريدون من خلالها تمثيل أنفسهم. كما أن جميع الصور التي عرضناها التقطها مصورون منغوليون. ونظراً لتقلّب الوضع السياسي في الصحراء الوسطى، لم نتمكن من إشراك الناس من هناك بالطريقة نفسها. كنا نتمنى أن يكون حضورهم أقوى في القصة التي يسردها معرضنا، من خلال مقتنياتهم وأغانيهم على سبيل المثال. كانت الدكتورة آنجا فيشر مرتبطة جداً بالعائلات التي عاشت معها في الجزائر (داخل وخارج الجزائر لمدة عقد من الزمان) لدرجة أنها كانت شديدة الالتزام بتقديم الصورة الصحيحة التي تمثل هذه الشعوب. ومع ذلك، فقد كانت مسألة التمثيل برمتها موضع قلق واهتمام، وكانت خير مثال على الدور الذي تلعبه السياساتُ العالمية وغياب العدالة في تصوير الشعوب لبقية العالم.

ومع أن المعرض يقدم تمثيلنا نحن لحياة الآخرين، ما زلت أشعر بأننا أنجزنا شيئاً مميزاً ومسؤولاً. فقد حاولنا أن نترك المقتنيات المعروضة تتحدث عن نفسها. وصممنا الشروحات النصية بعناية فائقة في محاولة للحد من التفسيرات غير الصائبة التي قد يخرج بها الزوار مما يرونه أو يسمعونه في المعرض. لكن في النهاية تمتلك المقتنيات المعروضة صوتاً أعلى من نصوصنا، حيث صنعت واستخدمت على أيدي أهلها.

حاولنا قدر الإمكان أن نعرض الأمور اليومية بدلاً من التركيز على الغرائب. وأن نمنح الزوار، من خلال اللوحات التفاعلية، الفرصة لإدراك شكل الحياة داخل خيمة أو يورت، وتجربة أجزاء مختلفة منها، والتعرف على من يستخدم هذه المساحة ولأي غرض. لكننا لم نتمكن من السماح للزوار بالدخول فعلياً إلى هذه المساكن؛ لدواعي السلامة وحماية هذه المساكن. لكن بالمجمل، أردنا أن نظهر الاستخدامات الاجتماعية المكثفة لهذه المساكن من قبل أهلها، وما تمثله أجزاؤها في حياتهم اليومية العملية، بعيداً عن التسطيح السائد والمتمثل في تقديمها وكأنها مجرد أشكال معمارية غير مألوفة لدى الشعوب الأخرى. ويمكن للزائر استكشاف ذلك عبر اللوحات التفاعلية، فيرى مثلاً خيمة اليورت البيضاء والتي تبدو للناظر من الخارج وكأنها جسم مستدير. بينما الأمر مختلف تماماً في الحقيقة، إذ تنقسم إلى أجزاء شمالية وجنوبية وشرقية وغربية، أشبه بالغرف، ولكل منهما معناه الخاص، حيث يمثل أحد الأجزاء مساحة مقدسة، بينما الآخر مساحة ترفيهية.. وهكذا. وهي مساحات يدركها أهلها ولا يفهمها الغرباء. وبالمقابل جربنا أساليب مختلفة لتمثيل كيف تبدو هذه الثقافات والبيئات في عيون أهلها أنفسهم وكيف يعيشون فيها.

نساء يسكبن الشاي في كؤوس زجاجية

نساء يقدمن الشاي في حفل زفاف، قبيلة أولاد علي، مصر، 1987. بإذن من الدكتورة ليلى أبو لغد.

Lila Abu-Lughod@Anthro-Photo File

س: بصفتك عالمة أنثروبولوجيا، ما هي نظرتك للمتاحف؟ وكيف تتعاملين مع فكرة وحيثيات عرض ثقافة الشعوب الأخرى فيها؟

الدكتورة ليلى أبو لغد: أنا أعشق المتاحف وأشعر بسعادة كبيرة لأنني دعيت إلى هذا المتحف للمساعدة في تنظيم معرض مرتبط بتخصصي. كما تمثل المتاحف بالنسبة لي منصة أنقد من خلالها تشييء الثقافات والشعوب، وذلك بالطبع انطلاقاً من تخصصي وخبرتي. ونحن نعرف الماضي الأليم وراء جمع المقتنيات والآثار خلال حقبة الاستعمار، والتي استقر بها الحال في كبرى المتاحف العالمية. وتواجه هذه المتاحف الآن معضلات ومآزق نتيجة ملكيتها كثيراً من المقتنيات المنهوبة، وهناك مطالبات كبيرة بإعادتها إلى مواطنها الأصلية. لكن أعتقد أن الحال مختلف هنا في متحف قطر الوطني، فجميع المقتنيات التابعة للمتحف جاءت بطرق شرعية ولم تنهب من بلادها.

بدأ حبي للمتاحف أثناء طفولتي في مصر، حيث كنت أقضي ساعات في المتحف المصري، في القاهرة، أرسم القطع الفرعونية. بعدها صرت أرسم في متحف التاريخ الطبيعي في شيكاغو. وكنت منبهرة بما وجدته هناك من فنون الثقافات الأخرى. أما في الكلية، فقد انجذبت إلى الأنثروبولوجيا لأنها أعطتني طريقة لفهم مختلف العوالم التي صنعها الناس، وبدا التخصص بالنسبة لي وكأنه امتداد طبيعي لهواياتي واهتماماتي السابقة. مع تقدم العمر وتراكم الخبرات، لم يعد شغف الشباب هو ما يقودني، فقد ازداد وعيي بذاتي، وبتُّ أنظر بعين النقد إلى الأخلاقيات والسياسات المتعلقة بتمثيل الشعوب والثقافات الأخرى في المعارض. ومن المثير للاهتمام أن هذه الأنواع من الانتقادات دفعت متحف فيلد إلى تنقيح قائمة المعروضات التي يضمها معرض "الحقائق الأصلية: أصواتنا، قصصنا" الذي يتناول السكان الأصليين في أميركا. ومع ذلك، فإن عنوان هذا المعرض ما يزال يطرح تساؤلات مهمة حول حقيقة هذه "الأصوات والقصص" وهل تعود فعلاً إلى أهلها أم إلى القائمين على المعرض؟ كما من المهم التساؤل عن مدى إمكانية تمثيل الشعوب والثقافات الأخرى بحيادية وواقعية كاملة أم أنه لا مفر من تمثيلها جزئياً؟

وعلى الرغم من كل ما سبق، فإن هناك حدوداً لما يمكن إنجازه في هذا الشأن عند تنظيم معرض متحفي، مهما كانت النوايا صافية.

أحبّ الاعتقاد أن معرض "حياة الترحال" يقدم رواية مضادة عن حياة الرعاة. فمع أن القصة لم يسردها الرعاة بأنفسهم كما كنا نأمل، فعلى الأقل سردها قيمون فنيون يعرفون هذه المجتمعات جيداً ويهتمون بها وبتمثيلها خير تمثيل. أردنا نقل النضالات والصراعات التي تعيشها هذه المجموعات، خاصة أن بعض هذه الصراعات مرتبطة بالطرق التي تم بها تمثيل هذه الشعوب والمجتمعات سابقاً. وقد حرصنا على إظهار أساليب حياتهم إلى جانب ما نحترمه ويعجبنا فيهم. يختلف المتحف الوطني عن أي متحف استعماري أو إمبراطوري؛ فهو مؤسسة قطرية وطنية تمثل نفسها، بما في ذلك هذا المعرض.

رجل من الطوارق يسكب الشاي ويرفع الإبريق إلى الأعلى

طوارق يصبون الشاي، بوركينا فاسو 1967. بول ريسمان. بإذن من بول إتش ريسمان بابيرس، أرشيف كلية كارلتون، نورثفيلد مينيسوتا

س: ما هي الدروس التي تريدين أن يستخلصها الزوار من هذا المعرض؟

الدكتورة ليلى أبو لغد: ما أردنا أن يفهمه الناس هو أن هناك طرقاً أخرى للعيش، طرقاً متطورة تقنياً حتى وإن بدت بسيطة. كما نريدهم أن يعلموا أنه بإمكاننا جميعاً التعلّم ممن يعيشون مع الحيوانات ويعتنون بها، وكيف تبادلهم هذه الحيوانات الرعاية بدورها، مما يخلق نوعاً من العيش والترابط بين الكائنات الحية على اختلاف أنواعها.

نريد أن يرى الزوار حياة الرعاة والبدو الرحّل بشكل عام، وكيف أنهم لا يبنون هياكل عملاقة ولا يستخرجون موارد الأرض سعياً للربح المادي واستغلال الآخرين. ويمكننا أن نتعلم منهم الكثير مثل قيمة إعادة التدوير، وإعادة الاستخدام، وعدم استنزاف الموارد، وأضرار السلوك الاستهلاكي. فما يصنعونه من أدوات ومقتنيات كاف ليعيشوا به حياة مذهلة وجميلة.

ومع أن المعرض غني بالمقتنيات والمعروضات، فإنه يرسل رسالة بسيطة مفادها أن لدى هذه الشعوب والمجتمعات كثيراً مما يستحق الإعجاب والتعلم. وإذا كنا على وشك تدمير مقومات الحياة على كوكبنا، ألا يستحق الأمر النظر إلى أساليب حياة مختلفة أو بديلة؟

إيمان رضوي أخصائية تحرير في متاحف قطر.